سقطت حكومة المصلحة الوطنيّة في الجوهر على الرغم من محاولة فرقاء كثيرين تعويمها بالشكل حرصًا على عدم ذهاب البلاد نحو انفجار خطير. الجوهر الحقيقيّ هو عقل الشعب وقلبه وحراكه، والشكل قائم في عقل السياسيين الخائفين على أن تبتلعهم ثورة "طلعت ريحتكم" وأخواتها وترميهم في غياهب مجهول داكن. انعقد مجلس الوزراء تحت غمام ملبّد وضباب قُمِّط وجهه به، في ظلّ غياب أربعة مكوّنات جوهريّة، "التيار الوطنيّ الحر"، "حزب الله"، "المردة"، "الطاشناق". واتجهت الرؤى إلى توصيف الغياب بالإيجابيّ ليتسنّى لهذا المجلس بالبحث في القضايا التي صدرت القرارات بشأنها وتختصّ برواتب الموظفين والعسكريين، واليوروبوندز، وغيرها. اكتسب الغياب صفة الإيجابيّة "بإيحاء ما"، وقد شاء من أوحى بهذا التوصيف أن يقول بشيء من الضبابيّة بأن مسألة السبعين مرسومًا قد تمّ التراجع عن توقيعها ريثما يتسنّى لوزراء التيار والحزب و"المردة" و"الطاشناق" دراستها والتوقيع على ما يريدون ومنها، وترك الباقي للنقاش. مصدر الإيحاء هذا واضح في تجليّاته الخياليّة الخالية من فهم دقيق بأنّ إنقاذ الحكومة ليس بالعناوين الملحقة، بل بتحديد آليات المشاركة ونوعيّتها ومعاييرها، وهي مفقودة ومعدومة الحضور.
يتجلّى الإيحاء في حقيقته، من تلاقي بعض الأطراف، على محاولة التهدئة. وتجتمع في التلاقي عوامل داخليّة وأخرى دوليّة يبوح بها السفير الأميركيّ ديفيد هيل في لقاءاته وأحاديثه الأخيرة. لكن محاولة التهدئة بحدّ ذاتها تفترض الإخلاص للتسوية التي ولدت من رحمها الحكومة وليس التراجع عنها. ويعرف الجميع بأنّ التسوية ما كان لها أن تحيا وتتحرّك هنا لولا تلاقي "التيار الوطنيّ الحر" بشخص مؤسّسه العماد ميشال عون و"تيار المستقبل" مع رئيسه سعد الحريري، بمعنى أنه لولا قبول المسيحيّ الأكثريّ بتلك التسوية، لما كانت تلك الحكومة. ما يحدث الآن، والمستغرب أن يغلق "حليف الحليف" كلّ الإمكانيات في لحظات حرجة تعلمنا معه معنى تدوير الزوايا بصورة محكمة وذكيّة، لينكشف كمدافع بإمعان عن فريق يتذكّر كيف أنّه أغلق المجلس بوجهه خلال حكومتي فؤاد السنيورة الأولى والثانية، بسبب مساسه بالتكوين الميثاقيّ الجوهريّ المتداخل بالصراع الاستراتيجيّ الخطير في المنطقة، والهادف بتوغّل بضرب "حزب الله" وتمزيقه بحسب المصطلحات الأميركيّة التي سادت آنذاك، والمنطلق فحواه من اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. وتقول بعض الأوساط، بأن رئيس المجلس النيابيّ نبيه بري، وإن بدا في الشكل متمسّكًا بثوابت المقاومة في جوهرها النضاليّ والقتاليّ، إلاّ أنّ تحوله في المفصل الداخليّ وتفتيشه عن دور بهذه الصورة الفاقعة وإن كان تحت الشمس وتعويمه لفريق منطلق من ثوابت مختلفة بالمعنى الجوهريّ للكلمة بالتفاصيل الداخليّة من شأنه أن يساهم ببعثرة الرؤى المتكوّنة داخليًّا من هذا المحور بالاصطفاف القائم حاليًّا في إطاره الاستراتيجيّ المتكامل. التعويم الميدانيّ بخرق تظاهرة "طلعت ريحتكم" يومي السبت والأحد 22 و23 آب الجاري، بتجويفه المظاهرة من مضمونها الاحتجاجيّ، وأخذها إلى مكان آخر ومن ثمّ على الطاولة بوجه وزراء التيار والحزب الذين انسحبوا من الجلسة قد عدّ في حقيقته وجوهره العميق والاستراتيجيّ تعويمًا للسعوديين المستكينين إلى تلك الحكومة. وتكمل الأوساط قراءتها لحراك برّي المزدوج بأنّه يراهن على واقعين:
- إمّا أن ينجح المسعى في مسقط بين السعوديين والإيرانيين، فيكون بذلك جزءًا من هذا المسعى كما صوّر له من بعض الأوساط، فيترتّب نظام متوازن بينهما في الإقليم الملتهب من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن والبحرين، ويظهر نفسه الشخصيّة الشيعيّة الأساسيّة في التركيبة الطائفيّة اللبنانيّة المستوعبة بكيانيتها وشخصيتها لهذا النظام الجديد.
- وإما أن ينتصر محور على آخر، فإذا انتصر السعوديون يكون جاهزًا كشخصيّة شيعية وازنة لهذا التكوّن بالانتصار، وإذا ما انتصر الإيرانيون حينئذ يفوّض "حزب الله" بترتيب الأمور.
لكنّ الطامة الحقيقيّة أن الاتجاه الحاليّ على ما يبدو ليس وصاليًّا بقدر ما هو صداميّ، يشي بذلك كلام الرئيس السوريّ بشار الأسد، ومن ثمّ الضبابيّة الأميركيّة الظاهرة بكثافة واضحة لا لبس فيها. فاين سيكون موقعه في الصراع واحتدامه في ظلّ الضبابيّة الأميركيّة المتناقضة بعناوينها البنيوية والإقليميّة؟
أمام هذا المشهد، يقف "حزب الله" في الخطّ المتكامل مع العماد ميشال عون، كممثّل حقيقيّ للوجدان المسيحيّ بأكثريّته المطلقة. لا يشاء الحزب التفريط بطبيعة الخصوصيّة الشيعيّة كطبيعة مقاومة يمثّلها في الإطار الداخليّ والمشرقي والعربيّ، وكتمتمة لبنانية وعربية في قلب إيران، غير انّه أدرك بأنّ تلك الطبيعة موجوعة بالعمق وبلا استحياء، لأن مكوّنًا جوهريًّا له بدوره خصوصيّته وطبيعته التكوينيّة مُسَّ به وأريد هتكه في العمق. لن يسمح "حزب الله" على الإطلاق وبلسان مصدر مطّلعٍ على أدبيّاته، بأن يكسر المكوّن المسيحيّ في لبنان، ويرى في العماد عون بأنه في حالة وحدانية ترقى إلى الكمال معه على طريقة الشاعر الصوفيّ منصور الحلاّج:
"أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا".
لقد عبّر الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله، في خطاباته بأنّه ممنوع كسر ميشال عون. ما كان الكلام موجّهًا للخصوم بقدر ما هو موجّه للحلفاء المتماهين بخيوط كثيرة مع الخصوم. لقد ترجم الحزب كلام أمينه العام وجسّده لحظة انسحاب وزيريه محمد فنيش وحسين الحاج حسن إلى جانب وزير الخارجية جبران باسيل رئيس التيار الجديد بالتزكية ووزير التربية الياس بو صعب ووزير الطاشناق أرتور نظاريان... أهم ما حصل بأن الوزيرين فنيش والحاج حسن أبلغا الجميع بأن الهتك بقيمة المشاركة وجوهرها ومعناها سيضطر الحزب لينضمّ إلى الحراك الشعبيّ إلى جانب العماد عون. هذا فهمه برّي، لكنّ الأساس أن الحاج وفيق صفا زار ثلاث شخصيّات كبرى برّي ورئيس الحكومة تمام سلام والنائب وليد جنبلاط للتأكيد على صلابة الموقف وجديّته، ومن هنا جاء اتصال جنبلاط بعون كمحاولة لتهدئة الأمور بعيد زيارة صفا له.
المسألة لا تقوم على المخارج الهشّة بل على ذوق واقعيّ وفهم دقيق قائم على تجذير المشاركة. كل مبادرة لا ترسّخ المشاركة وتبيحها وتجعلها إطارًا وحافزًا جوهريًّا تكون مضيعة للوقت. أمّا غير ذلك فالحكومة ساقطة بالمعنى الشرعيّ، إسقاطًا للمبدأ الدستوريّ الديمقراطيّ القائل بأنّ الشعب مصدر للسلطات. تلك هي الرؤية الكاملة. الحكومة سقطت في وجدان الشعب المتظاهر، على الرغم من استمرار محاولة تجويف هدف المظاهرة، يبقى السؤال الأساسي، هل نحن أمام سقوط مريع للنظام في الظروف الحاليّة؟ هل سقوطه مطلوب أميركيًّا؟ الجواب على هذا السؤال ليس واضحًا، لكن لبنان دخل بداية المخاض، وكلام السفير الأميركيّ ديفيد هيل على الرغم من الضبابيّة السائدة في السياسة الأميركيّة واضح في مسألة التظاهر ورفض الإدارة الأميركيّة التعرض للمتظاهرين بالقمع والقتل.
الأزمة ليست محصورة بتكوين السلطة بل بتكوين النظام. للمتظاهرين يوم السبت أن يقولوا كلمتهم، تحت عنوان مكافحة الفساد السياسيّ والاقتصاديّ، تحت عنوان نظافة لبنان من النفايات... من حقنا جميعًا ان نقول للسلطة القامعة بأن ترحل بفسادها ونفاياتها، لقد ضاق الجميع ذرعًا بها، لكن إذا رحلت فما هو البديل الدستوريّ والسياسيّ؟ الكلام لن يكون يوم السبت ولكن خلال الأسبوع المقبل لتظهر الرؤى الجديدة مترجحة ما بين التعويم وبداية مسيرة التكوين.